هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
معتصم
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
معتصم


ذكر
عدد الرسائل : 477
العمر : 41
العمل : معلم
المزاج : مشغول وحياتك مشغول
تاريخ التسجيل : 10/08/2007

ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر Empty
مُساهمةموضوع: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر   ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر I_icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 03, 2007 6:50 pm



بسم الله الرحمن الرحيم


مدينة بلا مطر

لبدر شاكر السياب

(ثنائية الاتّساق والانسجام)

مُقَدَّم إلى الأستاذ الدكتور :

سامح الرواشدة

استكمالا لمتطلبات مادة : " ندوة في تحليل الخطاب "

إعداد : معتصم
الفصل الدراسي الثاني
2006/2007

بين يدي البحث

قامت هذه الدراسة على تطبيق أدوات نظريات تحليل الخطاب على قصيدة (مدينة بلا مطر) لبدر شاكر السيّاب ، محاولة رصد نصّية الملفوظ ، وهو أمر انشغلت به نظرية الاتساق ، كما استعانت الدراسة أيضاً بنظرية الانسجام المتّكئة على التأويل وتفعيل دور المتلقّي .

وقد وظفت الدراسة خمسَ أدوات من نظرية الاتّساق ، هي : الإحالات ، والاستبدال ، والحذف ، والوصل ، والاتّساق المعجمي ، كما استثمرت أداتين من نظرية الانسجام هما : البنية الكليّة ، والمعرفة الخلفية .

وخَلُصتْ الدراسة إلى أنّ القصيدة تفتقر لعناصر الاتّساق ، غير أنها حققت قدراً طيباً من الترابط الدلالي ، الذي تحقّق عن طريق التأويل الذي يخدمُ مستوى الانسجام .













الاتساق :

يُراد عادة بالاتساق ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنصّ ما ، وهذا التماسك يتأتّى من خلال وسائل لغويّة تصل بين العناصر المشكلة للنص 1 ، وهذه الوسائل اللغوية تخلق النصيّة ، بحيث تساهم في وحدة النص الشاملة 2 ، وتؤوله لكي يُعدّ نصاً ، فإن انعدمت أو ضعفت افتقر الملفوظ إلى النصّية ، أو ضعفت نصيته ، ومن ثمّ افتقر إلى الاتساق 3 .

* الإحالات : وتتمثل في عودة بعض عناصر الملفوظ إلى عناصر لفظيّة أخرى ، نقدرها داخل النص أو في المقام (خارجه) ، انطلاقاً من تصوّر مفاده : أنّ العناصر المحيلة كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل ، إذ لا بدّ من العودة إلى ما تشير إليه من أجل تأويلها 4 .

وتنقسم الإحالة إلى نوعين رئيسين هما : الإحالة المقامية والإحالة النصّية ، وتتفرع الإحالة النصية إلى إحالة قبلية وإحالة بعدية 5 ، وتتوفر كل لغة طبيعية على عناصر تملك خاصيّة الإحالة ، وهي – حسب هاليداي ورقية حسن – الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة 6 .

قبل الخوض في الحديث عن عناصر الإحالة التي وردت في القصيدة التي بين أيدينا ، تحسن بنا الإشارة إلى الدور الذي يلعبه نوعا الإحالة الرئيسان في ترابط النص واتساقه ، " فالإحالة المقامية تساهم في خلق النص ، لأنها تربط اللغة بسياق المقام ، إلا أنّها لا تساهم في اتساقه بشكل مباشر ، بينما تقوم الإحالة النصية بدور فعّال في اتساق النص 7 .

سبق وذكرنا أن العناصر التي تملك خاصيّة الإحالة تضمّ الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة ، وسنعرضها بشكل موجز ، ثمّ سنعمد إلى رصد حضورها داخل النص .

الضمائر : إذا نظرنا إلى الضمائر من زاوية الاتساق أمكن التمييز فيها بين أدوار الكلام والأدوار الأخرى 8 ، أما أدوار الكلام فتندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب ، وهي إحالة إلى خارج النص بشكل نمطي 9 ، تشير إلى المقام (المتكلم/المتكلمين ، المخاطب/المخاطبين) 10 .

وإذا تأملنا النص سنجده حافلاً بهذا النوع من الإحالة ، حيث تطالعنا الإحالة المقامية منذ السطر الشعري الأول ، الذي يقول :

مدينتنا تؤرق ليلَها نارٌ بلا لهبِ

إذ يمثل الضمير المتصل العائد على المتكلمين أولَ إحالة مقامية ، فعلى من يعود هذا الضمير ؟ وما هي المدينة التي يعنيها الشاعر ؟ هل هي مسقط رأسه (البصرة) ؟ أم هي عاصمة بلده (بغداد) ؟ أم هل هي مدينة أخرى يودّ الشاعر أن يجسّدَ همّها وينقل تجربتها ؟ .

ولو أنعمنا النظر في النصّ كلِّه لوجدنا أنّ الإحالة المقامية تلك تتردّدُ ستين مرةً في نصٍّ عدد أسطره لا يزيد عن (93) سطراً ، ممّا يضفي جوّاً من التساؤل حول أولئك المعنيين ، الذين أحال إليهم الشاعر بضمير المتكلمين ، فمن يكونون ؟

ولا بأس من التوقف عند نموذجٍ دالٍّ في هذا الحقل ، يقول السياب :
تؤوب إلهة الدم ، خبزُ بابلَ ، شمسُ آذارِ .
ونحن نهيم كالغرباء من دارٍ إلى دارِ
لنسألَ عن هداياها .
جياعُ نحن .. واأسفاه ! فارغتان كفّاها ،
وقاسيتان عيناها
وباردتان كالذهبِ .

وعلى الرغم من أنّ هذه الإحالة هي الوحيدة التي تتكرر في النص ، إلا أنها أسهمت إلى حدِّ بعيد في اتّسام النص بشيءٍ من الغموض ، حيث إن الخروج برؤية حول هذا النص ، يتوقف بصورة أساسية على فهم كنه المحال إليهم خارج النص .

هذا عن أدوار الكلام ، أمّا الأدوار الأخرى فيندرج ضمنها ضمائر الغيبة ، وهي على عكس الأولى تحيل قبلياً بشكلٍ نمطيّ ، فتقوم بربط أجزاء النص وتصل بين أقسامه ، فتلعب بذلك دوراً هامّاً في اتساق النص .

وحينما نرصد ضمائر الغيبة التي يشتمل عليها النص ، نجد أنها حاضرةٌ فيه سبعاً وسبعين مرّة ، وهي بذلك أسهمت إلى حدٍّ ما في تماسكه ، إلا أنها لم تؤدِّ إلى اتساقه ، ولم تعوّض الضعف الذي أحدثته الإحالة المقامية التي كانت حاضرة – كما قلنا – ستين مرة ، وممّا يعزز هذا أنّ الإحالة النصيّة نفسها أحدثت أحياناً جوّاً من الإرباك داخل النص ، ذلك لوجود مسافة بعيدة تفصلُ بين المحال والمحال إليه ، ومن النماذج الدالّة في هذا الحقل قوله :

وتبحثُ عنكِ أيدينا
لأنّ الخوف ملء قلوبنا ، ورياحَ آذارِ
تهزُّ مهودنا فنخاف . والأصوات تدعونا .
جياعٌ نحنُ مرتجفون في الظلمة
ونبحث عن يدٍ في الليل تُطعمنا ، تغطينا ،
نشدُّ عيوننا المتلفتات بزندها العاري
ونبحث عنك في الظلماء ، عن ثديين ، عن حُلمة
فيا من صدرها الأفق الكبيرُ وثديها الغيمة
سمعتِ نشيجنا ورأيتِ كيف نموتُ .. فاسقينا !
نموتُ ، وأنت – واأسفاه – قاسية بلا رحمة .

فالضمائر في : صدرها ، وثديها ، تُحيل قبلياً إلى متقدّمٍٍ هو (إلهة الدم) ، والمسافة بين المحال (الضمائر) ، والمحال إليه (إلهة الدم) ، تزيد عن ثمانٍ وخمسين سطراً شعرياً ، ممّا يتيح لنا التوقّع بأنّ هذا النص يعاني من ضعفٍ في اتّساقه ، وهذا يبقى محضَ افتراضٍ ربّما يصدق ، وينبغي ألا نستعجل الحكم قبل استيفاء الحديث عن أدوات الاتساق الأخرى .

أسماء الإشارة : وهي الوسيلة الثانية من وسائل الاتساق الإحالية ، ويذهب هاليداي ورقية حسن ، إلى أنّ هناك عدّة إمكانيات لتصنيفها ، إمّا وفق الظرفية ، الزمان (الآن ، غداً) والمكان (هنا ، هناك) ، أو وفق البعد (ذاك ، تلك) ، والقرب (هذا ، هذه) 11 .

وتقوم أسماء الإشارة – بوصفها أداة اتّساق – بالربط القبلي والبعدي ، وهي بذلك تساهم في اتّساق النص وتماسكه 12 .

وإذا بحثنا في حقل أسماء الإشارة سنجد أنها لم تكن حاضرةً في النص بشكلٍ ملحوظ ، حيثُ أنّها لم ترد سوى ثلاث مرات ، ممّا يجعلنا نجزم بأنها لم تسهم في اتّساق النص ، يقول السياب :

أنافذتان من ملكوت ذاك العالم الأسود :
هنالك حيث يحمل ، كلّ عامٍ ، جرحه الناري ،
جرحَ العالم الدوّار ، فاديه .

حيث يحيل اسما الإشارة (ذاك - ذلك) بعدياً وقبلياً - على التوالي – إلى العالم الأسود.

المقارنة : وهي النوع الثالث من أنواع الإحالة ، " ويقصدُ بها وجود عنصرين يقارن النصّ بينهما ، وتنقسم إلى المطابقة والتشابه ، وتتكئ على ألفاظٍ مثل وصف الشيء بأنّه يشبه شيئاً آخرَ أو يماثله أو يوازيه ، بعضها يقوم على المخالفة ؛ كأنْ تقول يُضادّ أو يعاكس ، أو أفضل أو أكبر أو أجمل " 13 ، " أمّا من منظور الاتساق فهي لا تختلف عن الضمائر وأسماء الإشارة في كونها نصيّة ، وبناءً عليه فهي تقوم مثل الأنواع المتقدّمة لا محالة بوظيفة اتّساقيّة " 14 ، ويخلو النصّ تماماً من هذا النوع من أنواع الإحالة .

* الاستبدال : والاستبدال عملية تتمّ داخل النص ، وتقوم على تعويض عنصر في النص بعنصرٍ آخر 15 ، " وعلاقة الاستبدال تمثّل شكلاً من العلاقات النصّية القبليّة ؛ لأنّ العنصر المتأخر يأتي بديلاً لعنصرٍ متقدّم ، ما يجعلها قادرةً على تحقيق الاتّساق في النص حين تربط بين عنصرين متباعدين " 16 ، ويخلو النصّ أيضاً من الاستدلال .

* الحذف : والحذف كعلاقة اتّساق لا يختلف عن الاستبدال إلا بكونه استبدالاً بالصفر ، أي أنّ علاقة الاستبدال تترك أثراً ، وأثرها هو وجود أحد عناصر الاستبدال ، بينما علاقة الحذف لا تترك أثراً 17 ، " مماّ يدفع المتلقي بالنهوض إلى مهمّة التقدير ، ممّا يحفّزُ مهارة التأويل التي يمكن أن نعدّها مهارة انسجامٍ أولاً " 18 .

ومن الأمثلة الدالّة على الحذف قول الشاعر :

ولكنْ خفقة الأقدام والأيدي
وكركرةً و " آهَ " صغيرةٍ قبضت بيمناها
على قمرٍ يرفرفُ كالفراشةِ ، أو على نجمة ..
على هبةٍ من الغيمة ،
على رعشات ماءٍ ، قطرةٌ همست بها نسمة .

* الوصل : يعدّ الوصل علاقة اتّساقٍ أساسية في النص ، وذلك لأنّه يعمل على تقوية الأسباب بين متواليات الجمل المشكلة للنص وجعلها متماسكةً 19 ، وأدواته متعدّدة منها: أو ، و ، أعني ، مثلاً ، نحو ، أم ، لكن ، لذا ، لهذا ، لأنّ 20 ، فالوصلُ يحدّد الطريقة التي تترابط بها الجملة السابقة مع الجملة اللاحقة بشكلٍ منظّم داخل النص ، وذلك من خلال الأدوات السابقة ، بحيث تُدرك متواليات الجمل كوحدة متماسكةٍ 21 .

وقد كان لأدوات الوصل حضورها في النص ، وساهمت إلى حدٍّ ما في إحداث شيءٍ من الترابط داخله ، وقد استخدم الشاعر ثماني أدوات من أدوات الوصل ، وهي :
• الواو ............. 55 مرة .
• لكن .............. مرتين .
• لأنّ .............. مرّة واحدة .
• أو .............. ثلاث مرّات .
• ثمّ .............. مرّتين .
• الفاء ............ خمس مرّات .
• حتّى ............ مرّة واحدة .
• أمْ ............... مرّة واحدة .

وإذا ما أحصينا عدد مرّات استخدام أدوات الوصل كلها داخل النص سنجد أنّه يزيد عن سبعين مرّة ، وبذا تكون قد أسهمت في إحداث شيءٍ من التماسك داخل النص ، لكن لا يسعنا القول إنّ النص متّسقٌ لأجل ذلك فقط ، وسنتوقف عند نموذجٍ في هذا الباب :

سيّدنا جفانا . آهِ يا قبره
أما في قاعك الطينيّ من جرّه ؟
أما فيها بقايا من دماء الربّ . أو بذره ؟
حدائقه الصغيرة أمسِ جعنا فافترسناها :
سرقنا من بيوت النملِ ، من أجرانها ، دُخناً وشوفاناً
وأوشاباً زرعناها
فوفّينا – وما وفّى لنا – نذره ! "

فقد استخدم الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية ثلاث أدوات وصل ، (أو) وقد وردت مرّة واحدة ، و (الفاء) وقد تكرّرت مرّتين ، و (الواو) وقد تكرّرت ثلاث مرّات.


* الاتّساق المعجمي : ينقسم الاتساق المعجمي – كما يرى هاليداي وحسن – إلى نوعين: أ- التكرير ب- التضام 22 .

أمّا التكرير فهو شكلٌ من أشكال الاتّساق المعجمي يتطلب إعادة عنصر معجميّ ، أو ورود مرادف له أو شبه مرادف 23 ، وهو يمثّل أداةً واسعة الانتشار في النص ، تمثّلت في استخدام أساليب الاستفهام وأساليب النفي والتعجّب ، والجمل الاسمية والجمل الفعلية ، وقد كانت على النحو التالي :

• الاستفهام ............. 8
• النفي ................. 15
• التعجّب .............. 7
• الجمل الاسمية ....... 42
• الجمل الفعليّة ........ 94













عدل سابقا من قبل معتصم في السبت مارس 01, 2008 1:46 am عدل 3 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://darweesh.yoo7.com
معتصم
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
معتصم


ذكر
عدد الرسائل : 477
العمر : 41
العمل : معلم
المزاج : مشغول وحياتك مشغول
تاريخ التسجيل : 10/08/2007

ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر   ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر I_icon_minitimeالأربعاء أكتوبر 03, 2007 6:51 pm

انسجام الخطاب :

بعد استعراضنا لأدوات الاتساق في هذا النص ، نلاحظ أنّه يفتقر إلى الاتّساق التام، وقد نقصته عناصر كثيرة ، ولهذا سنستعين ببعض آليات الانسجام التي تخدم التأويل ، وتربط بين العناصر التي تبدو مفكّكة ، أمّا آليات الانسجام التي سوف نستخدمها فهي : البنية الكليّة ، والمعرفة الخلفيّة .

البنية الكلّية : " يرى فان ديك أنّ لكلّ خطاب بنية كلية ترتبط بها أجزاء الخطاب ، ويُقصد بالبنية الكلّية أن يكون للخطاب جامعٌ دلاليّ ، وقضيّة موضوعيّة يتمحور النصّ حولها ، ويحاول تقديمها بأدوات متعدّدة 24 .

ومن الأدوات المستخدمة في تحديد البنية الكليّة ما يلي :

العنوان : إنّ الشعراء حين يضعون عنواناً لقصائدهم إنّما يقصدون دلالةً وهدفاً ، ويُحمّلون العنوانَ جزءاً أساسيّاً من رسالة النص 25 ، ولقد لخّص أحدهم وظائف العنوان في ثلاثة أمور ، وهي : التحديد والإيحاء ومنح النص الأكبر قيمته ، زيادةً على ما قاله (رولان بارت) من أنّ العنوان يفتح شهيّة المتلقّي للقراءة 26 ، ويمثّل العنوان أحياناً بؤرة النص ومفتاحه ، ويمكننا أن نستهديَ به في تحديد رسالته 27 ، ومع ذلك يذهب (براون ويول) إلى أنّ عنوان أي خطاب لا يساوي موضوع ذلك الخطاب ، بل هو أحد التعبيرات الممكنه عنه 28 ، وهما يقترحان " أنّ أفضل طريقة لوصف وظيفة عنوان خطابٍ ما هي كونه أداة إبراز لها قوّة خاصّة " 29 ، ويعدّانه كذلك لأنّه يثير لدى القارئ توقعات قويّة حول ما يمكن أن يكونه موضوع الخطاب29.

التكرير : فالشاعر لا يكرّرُ شيئاً في النص إلا ويقصد أنّ يُرسّخَ مقولةً ما من خلال ذلك الشيء ، ويعزّزُ رؤيةً يرى أنها جديرة بالالتفات إليها . 30

ولعلّ الأسئلة المطروحة الآن هي : ما الذي عمَدَ الشاعر إلى تكريره في هذا النص؟ وكيف انسجم ذلك النص مع العنوان ؟ وكيف انسجم ذلك كله مع الرؤيا التي أراد الشاعرُ تقديمها ؟

حينما ننظر في العنوان (مدينة بلا مطر) ، نجده يتألف من ثلاث كلمات ، تحملُ في طيّها مفارقةً غريبةً ، تتأتّى من أسلوب النفي الذي انطوى عليه العنوان (مدينة ، وبلا مطر) !؟

لا يكاد يُذكر المطر إلا وتداعت إلى الأذن تلك الأنشودة التي نظمها السيّاب بكلّ ما يحمله المطر من دلالات الخصب والحياة والنماء والحزن ، فجاء قصيدته تلك تعجُّ بالخصب ، وتنبضُ بالحياة المرهونة بهطل المطر ، ونجدُ السيّاب في قصيدته هذه (مدينة بلا مطر) يعزف على الوتر نفسه ، لكنْ بأسلوب مختلف ؛ فهذه المدينة أقفرت من كلّ مظاهر الحياة والخصب ، فالسحب تغطّي سماءها لكنْ دون إمطار ، والناس خائفون حيارى جياعٌ ، يرقبون من يُطعمهم ، ويُهدِّئ من روعهم ، ويُشعرهم بالأمن والسعادة ، لذا أضحت النساء عذارى ذاهلات حول عشتار (إلهة الأنوثة والحب) ما من أحدٍ يُبدّدُ ذهولهنّ ، فجاء أسلوب النفي منتشراً في ثنايا النص ليُلغيَ كل أسبابِ الحياة الممكنة على أرض هذه المدينة .

ولكن مرّت الأعوام ، كثراً ما حسبناها ،
بلا مطرٍ .. ولو قطره
ولا زهرٍ .. ولو زهرة
بلا ثمرٍ – كأنّ نخيلنا الجرداءَ أنصابٌ أقمناها
لنذبلَ تحتَها ونموت .

استحالت الحياة على أرض هذه المدينة جحيماً لا يُطاق ، حيثُ الجوعُ والخوفُ وانعدامُ الخصوبة ، والراحة والاطمئنان ، لتبقى المدينة ساهرةً تقاسي همومها وأحزانها، التي أمست حمًّى تدبّ في دورها بساكنيها .

مدينتنا تؤرّق ليلها نار بلا لهب
تُحمّ دروبُها و الدّورُ ثم تزول حمّاها
و يصبغها الغروب بكل ما حملته من سحب
. . . . . . . . . . . .

و في غرفات عشتار
تظل مجامر الفخار خاوية بلا نار
و يرتفع الدعاء كأن كل حناجر القصب
من المستنقعات تصيح
" لاهثة من التعب

ونجدُ الشاعر يستغلّ تقنية الفضاء البصري في القصيدة ، ليعزّز معنى الفناء والاندثار والانتهاء ، فجاءت صيحة تلك الحناجر على غير العادة لاهثة من التعبِ ، سَرعان ما تذوي ، ونلمس في إفراد الشاعر لعبارة (لاهثة من التعبِ) نهايةَ السطر معنى الموت والمواراة تحت الثرى ، ولا يُخفي الشاعر تذمّرهُ وضيقه من أولئك الساسة (الأرباب) الذين صادروا خيرات هذه المدينة ، حتّى آلت إلى تلك الحال ، بل واستحالت عيونهم القاسية رقباءَ تنظر بغير ما رحمة .
تدور كأنهنّ رحًى بطيئاتٌ تلوك جفوننا . .
حتى ألفناها .

فجاء التعبير عن إلف تلك العيون والأنس بها ذيلَ سطرٍ آخرَ يُنبئ بالمصير المحتّم لمن يرضخ لواقعه ، ولا ينهض لتغييره والتمرّد عليه .

ويُمكننا أن نرجّحَ أنّ الشاعرَ قد عنى بهذه المدينة (بغداد) عاصمة بلده ، دفعنا إلى هذا ذكرُ بابلَ في أروقة النص ، وهذا أمرٌ محتمل ، إلا أنّنا نحسُّ في نصّ السيّاب خطاباً يفضح الواقع المرير الذي تعيشه كلّ المدن العربية .

المعرفة الخلفيّة : إنّ المستمع أو القارئ حينما يواجه خطاباً ما لا يواجهه وهو خاوي الوفاض ، وإنّما يستعين بمعرفته الخلفيّة 31 ، ويُقصد بها ثقافة المتلقّي ، وأدواته المعرفيّة ، وما لديه من قدرة على التصوّر الذهني للأشياء 32 ، هذه المعلومات العامّة عن العالم هي أساس فهمنا للخطاب فحسب ، بل ربّما لكلِّ جوانب خبراتنا الحياتيّة ، والشاعر حينما يصوغ نصّه الشعري يتّكئ بصورة كبيرة في استحضار مكونات نصّه من خلفياته المعرفية ، وهو بالتالي يلتقي مع المتلقين وما لديهم من أُطرٍ معرفية تُسهم في خلق مشترك معرفي بينهما 33 ، وهذا المشترك المعرفي يمثّل ركيزة أساسية يستند إليها المتلقّي في محاولة فهم الخطاب الذي يواجهه وتأويله .

والقارئ نتيجة سعة اطلاعه واتّساع ثقافته قد يمتلك قدراً هائلا من المعلومات ، وليس من المعقول أن يستدعيَ ذلك القدر المعلوماتي الكبير مع كلّ خطابٍ يواجهه ويحاول فهمه وتأويله ، وهذا يعني أنّه يختار من المخزون الهائل من المعلومات ما يلائم الخطاب المواجه ، وهذا يقود إلى ضرورة تنظيم هذه المعرفة بطريقة ثابتة ، كوحدة واحدة يسهل الوصول إليها ، بدلاً من كونها مجموعة مشتتة من الحقائق المنفردة يحتاج إلى تجميعها من أجزاء مختلفة من الذاكرة .

ومن أجل إبراز هذا الطابع المنظّم ، حاول باحثون ينتمون إلى تخصّصات مختلفة تمثيل هذه المعرفة المخزّنة ، وبحثها بطريقة علميّة ، من أجل وصف الكيفيّة التي تنظّم بها معرفة العالم في ذاكرة الإنسان ، ثمّ الكيفيّة التي تُنشّط بها هذه المعرفة في عملية فهم الخطاب 34 .

ومن المفاهيم المستخدمة لوصف كيفية تخزين المعرفة في الذاكرة بشكلٍ منظّم ، مفهوم الإطارات المعرفيّة ، " فمنسكي يرى أنّ معلوماتنا مخزّنة في الذاكرة في شكل بنًى مخصّصة للبيانات يسمّيها (إطارات معرفية) ، تُمثّل مواقف نموذجية ، وهي تُستعمل بالطريقة التالية : عندما يعترضنا موقف جديد ، فإنّنا نحتاج ممّا هو متوفّر في ذاكرتنا إلى بنية تُسمّى إطاراً معرفيّاً ، وهي عبارة عن إطار نتذكّره يتمّ تكييفه ليناسب الواقع ، وذلك بتغيير التفاصيل حسب الحاجة 35 .

وعند اطلاعنا على هذا النص نجد أنّ السيّاب الشاعر المثقّف ، قد صبغه - كما هو دأبه في الكثير من نصوصه – بثقافته ، إذْ وظّف اطلاعه على الأساطير بما يخدم الرؤيا التي سعى إلى نقلها إلينا - نحن المتلقين – لذا نجد علينا لزاماً إذا ما سعينا إلى الوقوف على تلك الرؤيا ، أن نستثمر اطّلاعنا على تلك الأساطير ، واستدعائها من الذاكرة بعدّها إطارات معرفية خاصّة ، وقد استثمر السيّاب أسطورتين مشهورتين ، الأولى هي أسطورة تمّوز ، والثانية هي أسطورة عشتار ، وتمّوز وفق دلالته البابليّة هو " الابن البار " أو " الابن الذي يُبعثُ من جديد " 36 ،


يقول السيّاب :

" صحا من نومه الطينيّ تحت عرائش العنبِ
صحا تمّوز ، عاد لبابلَ الخضراءَ يرعاها . "

وهذا ينسجم تماماً مع الأمل الذي يحدو الشاعرَ بصحوةِ أبناء المدينة (العربية) واستفاقتهم من سباتهم العميق ، ليبعثوا الحضارة والحياة من جديد في أرجاء مدينتهم المقفرة .

ويقول أيضاً :

وفي غرفات عشتار
تظلُّ مجامر الفخّار خاويةً بلا نارِ ،

وفي موضعٍ آخر :

عذارانا حزانى ذاهلاتٌ حولَ عشتارِ
يغيضُ الماء شيئاً بعدَ شيءٍ من محيّاها
وغصناً بعدَ غصنٍ تذبل الكرمة .

فعشتار كما هو معروف هي إلهة الأنوثة والحب والحياة ، وقد بدت الإناث في هذا النص " عذارى ذاهلاتٌ حول عشتار " ، كما أشرنا سابقاً لانعدام ماءِ الحياة .




الحواشي :

1- محمد خطابي ، لسانيات النص ، ط1 ، 1991 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت، ص: 15
2- نفسه ، ص : 13
3- سامح رواشدة قصيدة الوقت لأدونيس (ثنائية الاتساق والانسجام) ، مجلّة دراسات الجامعة الأردنية ، مج3 ، ع3 ، 2003 ، ص : 517
4- نفسه ، ص : 517
5- محمد خطابي ، ص : 17
6- نفسه ، ص : 17
7- نفسه ، ص : 18
8- نفسه ، ص : 18
9- نفسه ، ص : 18
10- سامح الرواشدة ، ص : 517
11- محمد خطابي ، ص : 19
12- نفسه ، ص : 19
13- سامح الرواشدة ، ص : 519
14- محمد خطابي ، ص : 19
15- نفسه ، ص : 19
16- سامح الرواشدة ، ص : 520
17- محمد خطابي ، ص : 21
18- سامح الرواشدة ، ص : 520
19- نفسه ، ص : 520
20- محمد خطابي ، ص : 24
21- نفسه ، ص : 24
22- محمد خطابي ، ص : 25
23- سامح الرواشدة ، ص : 522
24- سامح الرواشدة ، إشكالية التلقي والتأويل ، ط1 ، 2001 ، أمانة عمان ، عمان ، 96 .
25- نفسه ، ص : 97
26- براون ويول ، تحليل الخطاب ، ترجمة : محمد لطفي الزليطي ومنير التركي 1997 ، جامعة الملك سعود ، الرياض ، ص : 162
27- نفسه ، ص : 162
28- محمد خطابي ، ص : 60
29- سامح الرواشدة ، قصيدة الوقت ، ص : 523
30- محمد خطابي ، ص : 61
31- سامح الرواشدة ، قصيدة الوقت ، ص : 525
32- براون ويول ، ص : 279
33- سامح الرواشدة ، قصيدة الوقت ، ص : 525
34- براون ويول ، ص : 283
35- محمد خطابي ، ص : 62
36- www.alargam.com


















المراجع

1- براون ، ج ، يول ، تحليل الخطاب ، ترجمة محمد مصطفى الزليطي ومنير التركي ، 1997 ، جامعة الملك سعود ، الرياض .


2- الرواشدة ، سامح ، إشكالية التلقّي والتأويل ، ط1 ، 2001 ، أمانة عمان ، عمان.


3- قصيدة الوقت لأدونيس (ثنائية الاتساق والانسجام) ، مجلة الدراسات ، الجامعة الأردنية ، مج3 ، ع3 ، 2003 .



** شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://darweesh.yoo7.com
حمودة علاونة
مشرف منتدى الرياضة
مشرف منتدى الرياضة
حمودة علاونة


ذكر
عدد الرسائل : 892
العمر : 31
تاريخ التسجيل : 28/01/2008

ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر   ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر I_icon_minitimeالسبت فبراير 23, 2008 1:57 pm

شكرا كتير كتير معتصم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
معتصم
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
معتصم


ذكر
عدد الرسائل : 477
العمر : 41
العمل : معلم
المزاج : مشغول وحياتك مشغول
تاريخ التسجيل : 10/08/2007

ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر Empty
مُساهمةموضوع: رد: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر   ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر I_icon_minitimeالسبت مارس 01, 2008 1:48 am


العفو حمودة وشكرا لمرورك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://darweesh.yoo7.com
 
ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتدى الأكاديمي :: قسم الأبحاث المنشورة والمخطوطات-
انتقل الى: