معتصم مؤسس المنتدى
عدد الرسائل : 477 العمر : 41 العمل : معلم المزاج : مشغول وحياتك مشغول تاريخ التسجيل : 10/08/2007
| موضوع: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر الأربعاء أكتوبر 03, 2007 6:50 pm | |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
مدينة بلا مطر
لبدر شاكر السياب
(ثنائية الاتّساق والانسجام)
مُقَدَّم إلى الأستاذ الدكتور :
سامح الرواشدة
استكمالا لمتطلبات مادة : " ندوة في تحليل الخطاب "
إعداد : معتصم الفصل الدراسي الثاني 2006/2007
بين يدي البحث
قامت هذه الدراسة على تطبيق أدوات نظريات تحليل الخطاب على قصيدة (مدينة بلا مطر) لبدر شاكر السيّاب ، محاولة رصد نصّية الملفوظ ، وهو أمر انشغلت به نظرية الاتساق ، كما استعانت الدراسة أيضاً بنظرية الانسجام المتّكئة على التأويل وتفعيل دور المتلقّي .
وقد وظفت الدراسة خمسَ أدوات من نظرية الاتّساق ، هي : الإحالات ، والاستبدال ، والحذف ، والوصل ، والاتّساق المعجمي ، كما استثمرت أداتين من نظرية الانسجام هما : البنية الكليّة ، والمعرفة الخلفية .
وخَلُصتْ الدراسة إلى أنّ القصيدة تفتقر لعناصر الاتّساق ، غير أنها حققت قدراً طيباً من الترابط الدلالي ، الذي تحقّق عن طريق التأويل الذي يخدمُ مستوى الانسجام .
الاتساق :
يُراد عادة بالاتساق ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنصّ ما ، وهذا التماسك يتأتّى من خلال وسائل لغويّة تصل بين العناصر المشكلة للنص 1 ، وهذه الوسائل اللغوية تخلق النصيّة ، بحيث تساهم في وحدة النص الشاملة 2 ، وتؤوله لكي يُعدّ نصاً ، فإن انعدمت أو ضعفت افتقر الملفوظ إلى النصّية ، أو ضعفت نصيته ، ومن ثمّ افتقر إلى الاتساق 3 .
* الإحالات : وتتمثل في عودة بعض عناصر الملفوظ إلى عناصر لفظيّة أخرى ، نقدرها داخل النص أو في المقام (خارجه) ، انطلاقاً من تصوّر مفاده : أنّ العناصر المحيلة كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل ، إذ لا بدّ من العودة إلى ما تشير إليه من أجل تأويلها 4 .
وتنقسم الإحالة إلى نوعين رئيسين هما : الإحالة المقامية والإحالة النصّية ، وتتفرع الإحالة النصية إلى إحالة قبلية وإحالة بعدية 5 ، وتتوفر كل لغة طبيعية على عناصر تملك خاصيّة الإحالة ، وهي – حسب هاليداي ورقية حسن – الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة 6 .
قبل الخوض في الحديث عن عناصر الإحالة التي وردت في القصيدة التي بين أيدينا ، تحسن بنا الإشارة إلى الدور الذي يلعبه نوعا الإحالة الرئيسان في ترابط النص واتساقه ، " فالإحالة المقامية تساهم في خلق النص ، لأنها تربط اللغة بسياق المقام ، إلا أنّها لا تساهم في اتساقه بشكل مباشر ، بينما تقوم الإحالة النصية بدور فعّال في اتساق النص 7 .
سبق وذكرنا أن العناصر التي تملك خاصيّة الإحالة تضمّ الضمائر وأسماء الإشارة وأدوات المقارنة ، وسنعرضها بشكل موجز ، ثمّ سنعمد إلى رصد حضورها داخل النص .
الضمائر : إذا نظرنا إلى الضمائر من زاوية الاتساق أمكن التمييز فيها بين أدوار الكلام والأدوار الأخرى 8 ، أما أدوار الكلام فتندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب ، وهي إحالة إلى خارج النص بشكل نمطي 9 ، تشير إلى المقام (المتكلم/المتكلمين ، المخاطب/المخاطبين) 10 .
وإذا تأملنا النص سنجده حافلاً بهذا النوع من الإحالة ، حيث تطالعنا الإحالة المقامية منذ السطر الشعري الأول ، الذي يقول :
مدينتنا تؤرق ليلَها نارٌ بلا لهبِ
إذ يمثل الضمير المتصل العائد على المتكلمين أولَ إحالة مقامية ، فعلى من يعود هذا الضمير ؟ وما هي المدينة التي يعنيها الشاعر ؟ هل هي مسقط رأسه (البصرة) ؟ أم هي عاصمة بلده (بغداد) ؟ أم هل هي مدينة أخرى يودّ الشاعر أن يجسّدَ همّها وينقل تجربتها ؟ .
ولو أنعمنا النظر في النصّ كلِّه لوجدنا أنّ الإحالة المقامية تلك تتردّدُ ستين مرةً في نصٍّ عدد أسطره لا يزيد عن (93) سطراً ، ممّا يضفي جوّاً من التساؤل حول أولئك المعنيين ، الذين أحال إليهم الشاعر بضمير المتكلمين ، فمن يكونون ؟
ولا بأس من التوقف عند نموذجٍ دالٍّ في هذا الحقل ، يقول السياب : تؤوب إلهة الدم ، خبزُ بابلَ ، شمسُ آذارِ . ونحن نهيم كالغرباء من دارٍ إلى دارِ لنسألَ عن هداياها . جياعُ نحن .. واأسفاه ! فارغتان كفّاها ، وقاسيتان عيناها وباردتان كالذهبِ .
وعلى الرغم من أنّ هذه الإحالة هي الوحيدة التي تتكرر في النص ، إلا أنها أسهمت إلى حدِّ بعيد في اتّسام النص بشيءٍ من الغموض ، حيث إن الخروج برؤية حول هذا النص ، يتوقف بصورة أساسية على فهم كنه المحال إليهم خارج النص .
هذا عن أدوار الكلام ، أمّا الأدوار الأخرى فيندرج ضمنها ضمائر الغيبة ، وهي على عكس الأولى تحيل قبلياً بشكلٍ نمطيّ ، فتقوم بربط أجزاء النص وتصل بين أقسامه ، فتلعب بذلك دوراً هامّاً في اتساق النص .
وحينما نرصد ضمائر الغيبة التي يشتمل عليها النص ، نجد أنها حاضرةٌ فيه سبعاً وسبعين مرّة ، وهي بذلك أسهمت إلى حدٍّ ما في تماسكه ، إلا أنها لم تؤدِّ إلى اتساقه ، ولم تعوّض الضعف الذي أحدثته الإحالة المقامية التي كانت حاضرة – كما قلنا – ستين مرة ، وممّا يعزز هذا أنّ الإحالة النصيّة نفسها أحدثت أحياناً جوّاً من الإرباك داخل النص ، ذلك لوجود مسافة بعيدة تفصلُ بين المحال والمحال إليه ، ومن النماذج الدالّة في هذا الحقل قوله :
وتبحثُ عنكِ أيدينا لأنّ الخوف ملء قلوبنا ، ورياحَ آذارِ تهزُّ مهودنا فنخاف . والأصوات تدعونا . جياعٌ نحنُ مرتجفون في الظلمة ونبحث عن يدٍ في الليل تُطعمنا ، تغطينا ، نشدُّ عيوننا المتلفتات بزندها العاري ونبحث عنك في الظلماء ، عن ثديين ، عن حُلمة فيا من صدرها الأفق الكبيرُ وثديها الغيمة سمعتِ نشيجنا ورأيتِ كيف نموتُ .. فاسقينا ! نموتُ ، وأنت – واأسفاه – قاسية بلا رحمة .
فالضمائر في : صدرها ، وثديها ، تُحيل قبلياً إلى متقدّمٍٍ هو (إلهة الدم) ، والمسافة بين المحال (الضمائر) ، والمحال إليه (إلهة الدم) ، تزيد عن ثمانٍ وخمسين سطراً شعرياً ، ممّا يتيح لنا التوقّع بأنّ هذا النص يعاني من ضعفٍ في اتّساقه ، وهذا يبقى محضَ افتراضٍ ربّما يصدق ، وينبغي ألا نستعجل الحكم قبل استيفاء الحديث عن أدوات الاتساق الأخرى .
أسماء الإشارة : وهي الوسيلة الثانية من وسائل الاتساق الإحالية ، ويذهب هاليداي ورقية حسن ، إلى أنّ هناك عدّة إمكانيات لتصنيفها ، إمّا وفق الظرفية ، الزمان (الآن ، غداً) والمكان (هنا ، هناك) ، أو وفق البعد (ذاك ، تلك) ، والقرب (هذا ، هذه) 11 .
وتقوم أسماء الإشارة – بوصفها أداة اتّساق – بالربط القبلي والبعدي ، وهي بذلك تساهم في اتّساق النص وتماسكه 12 .
وإذا بحثنا في حقل أسماء الإشارة سنجد أنها لم تكن حاضرةً في النص بشكلٍ ملحوظ ، حيثُ أنّها لم ترد سوى ثلاث مرات ، ممّا يجعلنا نجزم بأنها لم تسهم في اتّساق النص ، يقول السياب :
أنافذتان من ملكوت ذاك العالم الأسود : هنالك حيث يحمل ، كلّ عامٍ ، جرحه الناري ، جرحَ العالم الدوّار ، فاديه .
حيث يحيل اسما الإشارة (ذاك - ذلك) بعدياً وقبلياً - على التوالي – إلى العالم الأسود.
المقارنة : وهي النوع الثالث من أنواع الإحالة ، " ويقصدُ بها وجود عنصرين يقارن النصّ بينهما ، وتنقسم إلى المطابقة والتشابه ، وتتكئ على ألفاظٍ مثل وصف الشيء بأنّه يشبه شيئاً آخرَ أو يماثله أو يوازيه ، بعضها يقوم على المخالفة ؛ كأنْ تقول يُضادّ أو يعاكس ، أو أفضل أو أكبر أو أجمل " 13 ، " أمّا من منظور الاتساق فهي لا تختلف عن الضمائر وأسماء الإشارة في كونها نصيّة ، وبناءً عليه فهي تقوم مثل الأنواع المتقدّمة لا محالة بوظيفة اتّساقيّة " 14 ، ويخلو النصّ تماماً من هذا النوع من أنواع الإحالة .
* الاستبدال : والاستبدال عملية تتمّ داخل النص ، وتقوم على تعويض عنصر في النص بعنصرٍ آخر 15 ، " وعلاقة الاستبدال تمثّل شكلاً من العلاقات النصّية القبليّة ؛ لأنّ العنصر المتأخر يأتي بديلاً لعنصرٍ متقدّم ، ما يجعلها قادرةً على تحقيق الاتّساق في النص حين تربط بين عنصرين متباعدين " 16 ، ويخلو النصّ أيضاً من الاستدلال .
* الحذف : والحذف كعلاقة اتّساق لا يختلف عن الاستبدال إلا بكونه استبدالاً بالصفر ، أي أنّ علاقة الاستبدال تترك أثراً ، وأثرها هو وجود أحد عناصر الاستبدال ، بينما علاقة الحذف لا تترك أثراً 17 ، " مماّ يدفع المتلقي بالنهوض إلى مهمّة التقدير ، ممّا يحفّزُ مهارة التأويل التي يمكن أن نعدّها مهارة انسجامٍ أولاً " 18 .
ومن الأمثلة الدالّة على الحذف قول الشاعر :
ولكنْ خفقة الأقدام والأيدي وكركرةً و " آهَ " صغيرةٍ قبضت بيمناها على قمرٍ يرفرفُ كالفراشةِ ، أو على نجمة .. على هبةٍ من الغيمة ، على رعشات ماءٍ ، قطرةٌ همست بها نسمة .
* الوصل : يعدّ الوصل علاقة اتّساقٍ أساسية في النص ، وذلك لأنّه يعمل على تقوية الأسباب بين متواليات الجمل المشكلة للنص وجعلها متماسكةً 19 ، وأدواته متعدّدة منها: أو ، و ، أعني ، مثلاً ، نحو ، أم ، لكن ، لذا ، لهذا ، لأنّ 20 ، فالوصلُ يحدّد الطريقة التي تترابط بها الجملة السابقة مع الجملة اللاحقة بشكلٍ منظّم داخل النص ، وذلك من خلال الأدوات السابقة ، بحيث تُدرك متواليات الجمل كوحدة متماسكةٍ 21 .
وقد كان لأدوات الوصل حضورها في النص ، وساهمت إلى حدٍّ ما في إحداث شيءٍ من الترابط داخله ، وقد استخدم الشاعر ثماني أدوات من أدوات الوصل ، وهي : • الواو ............. 55 مرة . • لكن .............. مرتين . • لأنّ .............. مرّة واحدة . • أو .............. ثلاث مرّات . • ثمّ .............. مرّتين . • الفاء ............ خمس مرّات . • حتّى ............ مرّة واحدة . • أمْ ............... مرّة واحدة .
وإذا ما أحصينا عدد مرّات استخدام أدوات الوصل كلها داخل النص سنجد أنّه يزيد عن سبعين مرّة ، وبذا تكون قد أسهمت في إحداث شيءٍ من التماسك داخل النص ، لكن لا يسعنا القول إنّ النص متّسقٌ لأجل ذلك فقط ، وسنتوقف عند نموذجٍ في هذا الباب :
سيّدنا جفانا . آهِ يا قبره أما في قاعك الطينيّ من جرّه ؟ أما فيها بقايا من دماء الربّ . أو بذره ؟ حدائقه الصغيرة أمسِ جعنا فافترسناها : سرقنا من بيوت النملِ ، من أجرانها ، دُخناً وشوفاناً وأوشاباً زرعناها فوفّينا – وما وفّى لنا – نذره ! "
فقد استخدم الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية ثلاث أدوات وصل ، (أو) وقد وردت مرّة واحدة ، و (الفاء) وقد تكرّرت مرّتين ، و (الواو) وقد تكرّرت ثلاث مرّات.
* الاتّساق المعجمي : ينقسم الاتساق المعجمي – كما يرى هاليداي وحسن – إلى نوعين: أ- التكرير ب- التضام 22 .
أمّا التكرير فهو شكلٌ من أشكال الاتّساق المعجمي يتطلب إعادة عنصر معجميّ ، أو ورود مرادف له أو شبه مرادف 23 ، وهو يمثّل أداةً واسعة الانتشار في النص ، تمثّلت في استخدام أساليب الاستفهام وأساليب النفي والتعجّب ، والجمل الاسمية والجمل الفعلية ، وقد كانت على النحو التالي :
• الاستفهام ............. 8 • النفي ................. 15 • التعجّب .............. 7 • الجمل الاسمية ....... 42 • الجمل الفعليّة ........ 94
عدل سابقا من قبل معتصم في السبت مارس 01, 2008 1:46 am عدل 3 مرات | |
|
معتصم مؤسس المنتدى
عدد الرسائل : 477 العمر : 41 العمل : معلم المزاج : مشغول وحياتك مشغول تاريخ التسجيل : 10/08/2007
| موضوع: رد: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر الأربعاء أكتوبر 03, 2007 6:51 pm | |
| انسجام الخطاب :
بعد استعراضنا لأدوات الاتساق في هذا النص ، نلاحظ أنّه يفتقر إلى الاتّساق التام، وقد نقصته عناصر كثيرة ، ولهذا سنستعين ببعض آليات الانسجام التي تخدم التأويل ، وتربط بين العناصر التي تبدو مفكّكة ، أمّا آليات الانسجام التي سوف نستخدمها فهي : البنية الكليّة ، والمعرفة الخلفيّة .
البنية الكلّية : " يرى فان ديك أنّ لكلّ خطاب بنية كلية ترتبط بها أجزاء الخطاب ، ويُقصد بالبنية الكلّية أن يكون للخطاب جامعٌ دلاليّ ، وقضيّة موضوعيّة يتمحور النصّ حولها ، ويحاول تقديمها بأدوات متعدّدة 24 .
ومن الأدوات المستخدمة في تحديد البنية الكليّة ما يلي :
العنوان : إنّ الشعراء حين يضعون عنواناً لقصائدهم إنّما يقصدون دلالةً وهدفاً ، ويُحمّلون العنوانَ جزءاً أساسيّاً من رسالة النص 25 ، ولقد لخّص أحدهم وظائف العنوان في ثلاثة أمور ، وهي : التحديد والإيحاء ومنح النص الأكبر قيمته ، زيادةً على ما قاله (رولان بارت) من أنّ العنوان يفتح شهيّة المتلقّي للقراءة 26 ، ويمثّل العنوان أحياناً بؤرة النص ومفتاحه ، ويمكننا أن نستهديَ به في تحديد رسالته 27 ، ومع ذلك يذهب (براون ويول) إلى أنّ عنوان أي خطاب لا يساوي موضوع ذلك الخطاب ، بل هو أحد التعبيرات الممكنه عنه 28 ، وهما يقترحان " أنّ أفضل طريقة لوصف وظيفة عنوان خطابٍ ما هي كونه أداة إبراز لها قوّة خاصّة " 29 ، ويعدّانه كذلك لأنّه يثير لدى القارئ توقعات قويّة حول ما يمكن أن يكونه موضوع الخطاب29.
التكرير : فالشاعر لا يكرّرُ شيئاً في النص إلا ويقصد أنّ يُرسّخَ مقولةً ما من خلال ذلك الشيء ، ويعزّزُ رؤيةً يرى أنها جديرة بالالتفات إليها . 30
ولعلّ الأسئلة المطروحة الآن هي : ما الذي عمَدَ الشاعر إلى تكريره في هذا النص؟ وكيف انسجم ذلك النص مع العنوان ؟ وكيف انسجم ذلك كله مع الرؤيا التي أراد الشاعرُ تقديمها ؟
حينما ننظر في العنوان (مدينة بلا مطر) ، نجده يتألف من ثلاث كلمات ، تحملُ في طيّها مفارقةً غريبةً ، تتأتّى من أسلوب النفي الذي انطوى عليه العنوان (مدينة ، وبلا مطر) !؟
لا يكاد يُذكر المطر إلا وتداعت إلى الأذن تلك الأنشودة التي نظمها السيّاب بكلّ ما يحمله المطر من دلالات الخصب والحياة والنماء والحزن ، فجاء قصيدته تلك تعجُّ بالخصب ، وتنبضُ بالحياة المرهونة بهطل المطر ، ونجدُ السيّاب في قصيدته هذه (مدينة بلا مطر) يعزف على الوتر نفسه ، لكنْ بأسلوب مختلف ؛ فهذه المدينة أقفرت من كلّ مظاهر الحياة والخصب ، فالسحب تغطّي سماءها لكنْ دون إمطار ، والناس خائفون حيارى جياعٌ ، يرقبون من يُطعمهم ، ويُهدِّئ من روعهم ، ويُشعرهم بالأمن والسعادة ، لذا أضحت النساء عذارى ذاهلات حول عشتار (إلهة الأنوثة والحب) ما من أحدٍ يُبدّدُ ذهولهنّ ، فجاء أسلوب النفي منتشراً في ثنايا النص ليُلغيَ كل أسبابِ الحياة الممكنة على أرض هذه المدينة .
ولكن مرّت الأعوام ، كثراً ما حسبناها ، بلا مطرٍ .. ولو قطره ولا زهرٍ .. ولو زهرة بلا ثمرٍ – كأنّ نخيلنا الجرداءَ أنصابٌ أقمناها لنذبلَ تحتَها ونموت .
استحالت الحياة على أرض هذه المدينة جحيماً لا يُطاق ، حيثُ الجوعُ والخوفُ وانعدامُ الخصوبة ، والراحة والاطمئنان ، لتبقى المدينة ساهرةً تقاسي همومها وأحزانها، التي أمست حمًّى تدبّ في دورها بساكنيها .
مدينتنا تؤرّق ليلها نار بلا لهب تُحمّ دروبُها و الدّورُ ثم تزول حمّاها و يصبغها الغروب بكل ما حملته من سحب . . . . . . . . . . . .
و في غرفات عشتار تظل مجامر الفخار خاوية بلا نار و يرتفع الدعاء كأن كل حناجر القصب من المستنقعات تصيح " لاهثة من التعب
ونجدُ الشاعر يستغلّ تقنية الفضاء البصري في القصيدة ، ليعزّز معنى الفناء والاندثار والانتهاء ، فجاءت صيحة تلك الحناجر على غير العادة لاهثة من التعبِ ، سَرعان ما تذوي ، ونلمس في إفراد الشاعر لعبارة (لاهثة من التعبِ) نهايةَ السطر معنى الموت والمواراة تحت الثرى ، ولا يُخفي الشاعر تذمّرهُ وضيقه من أولئك الساسة (الأرباب) الذين صادروا خيرات هذه المدينة ، حتّى آلت إلى تلك الحال ، بل واستحالت عيونهم القاسية رقباءَ تنظر بغير ما رحمة . تدور كأنهنّ رحًى بطيئاتٌ تلوك جفوننا . . حتى ألفناها .
فجاء التعبير عن إلف تلك العيون والأنس بها ذيلَ سطرٍ آخرَ يُنبئ بالمصير المحتّم لمن يرضخ لواقعه ، ولا ينهض لتغييره والتمرّد عليه .
ويُمكننا أن نرجّحَ أنّ الشاعرَ قد عنى بهذه المدينة (بغداد) عاصمة بلده ، دفعنا إلى هذا ذكرُ بابلَ في أروقة النص ، وهذا أمرٌ محتمل ، إلا أنّنا نحسُّ في نصّ السيّاب خطاباً يفضح الواقع المرير الذي تعيشه كلّ المدن العربية .
المعرفة الخلفيّة : إنّ المستمع أو القارئ حينما يواجه خطاباً ما لا يواجهه وهو خاوي الوفاض ، وإنّما يستعين بمعرفته الخلفيّة 31 ، ويُقصد بها ثقافة المتلقّي ، وأدواته المعرفيّة ، وما لديه من قدرة على التصوّر الذهني للأشياء 32 ، هذه المعلومات العامّة عن العالم هي أساس فهمنا للخطاب فحسب ، بل ربّما لكلِّ جوانب خبراتنا الحياتيّة ، والشاعر حينما يصوغ نصّه الشعري يتّكئ بصورة كبيرة في استحضار مكونات نصّه من خلفياته المعرفية ، وهو بالتالي يلتقي مع المتلقين وما لديهم من أُطرٍ معرفية تُسهم في خلق مشترك معرفي بينهما 33 ، وهذا المشترك المعرفي يمثّل ركيزة أساسية يستند إليها المتلقّي في محاولة فهم الخطاب الذي يواجهه وتأويله .
والقارئ نتيجة سعة اطلاعه واتّساع ثقافته قد يمتلك قدراً هائلا من المعلومات ، وليس من المعقول أن يستدعيَ ذلك القدر المعلوماتي الكبير مع كلّ خطابٍ يواجهه ويحاول فهمه وتأويله ، وهذا يعني أنّه يختار من المخزون الهائل من المعلومات ما يلائم الخطاب المواجه ، وهذا يقود إلى ضرورة تنظيم هذه المعرفة بطريقة ثابتة ، كوحدة واحدة يسهل الوصول إليها ، بدلاً من كونها مجموعة مشتتة من الحقائق المنفردة يحتاج إلى تجميعها من أجزاء مختلفة من الذاكرة .
ومن أجل إبراز هذا الطابع المنظّم ، حاول باحثون ينتمون إلى تخصّصات مختلفة تمثيل هذه المعرفة المخزّنة ، وبحثها بطريقة علميّة ، من أجل وصف الكيفيّة التي تنظّم بها معرفة العالم في ذاكرة الإنسان ، ثمّ الكيفيّة التي تُنشّط بها هذه المعرفة في عملية فهم الخطاب 34 .
ومن المفاهيم المستخدمة لوصف كيفية تخزين المعرفة في الذاكرة بشكلٍ منظّم ، مفهوم الإطارات المعرفيّة ، " فمنسكي يرى أنّ معلوماتنا مخزّنة في الذاكرة في شكل بنًى مخصّصة للبيانات يسمّيها (إطارات معرفية) ، تُمثّل مواقف نموذجية ، وهي تُستعمل بالطريقة التالية : عندما يعترضنا موقف جديد ، فإنّنا نحتاج ممّا هو متوفّر في ذاكرتنا إلى بنية تُسمّى إطاراً معرفيّاً ، وهي عبارة عن إطار نتذكّره يتمّ تكييفه ليناسب الواقع ، وذلك بتغيير التفاصيل حسب الحاجة 35 .
وعند اطلاعنا على هذا النص نجد أنّ السيّاب الشاعر المثقّف ، قد صبغه - كما هو دأبه في الكثير من نصوصه – بثقافته ، إذْ وظّف اطلاعه على الأساطير بما يخدم الرؤيا التي سعى إلى نقلها إلينا - نحن المتلقين – لذا نجد علينا لزاماً إذا ما سعينا إلى الوقوف على تلك الرؤيا ، أن نستثمر اطّلاعنا على تلك الأساطير ، واستدعائها من الذاكرة بعدّها إطارات معرفية خاصّة ، وقد استثمر السيّاب أسطورتين مشهورتين ، الأولى هي أسطورة تمّوز ، والثانية هي أسطورة عشتار ، وتمّوز وفق دلالته البابليّة هو " الابن البار " أو " الابن الذي يُبعثُ من جديد " 36 ،
يقول السيّاب :
" صحا من نومه الطينيّ تحت عرائش العنبِ صحا تمّوز ، عاد لبابلَ الخضراءَ يرعاها . "
وهذا ينسجم تماماً مع الأمل الذي يحدو الشاعرَ بصحوةِ أبناء المدينة (العربية) واستفاقتهم من سباتهم العميق ، ليبعثوا الحضارة والحياة من جديد في أرجاء مدينتهم المقفرة .
ويقول أيضاً :
وفي غرفات عشتار تظلُّ مجامر الفخّار خاويةً بلا نارِ ،
وفي موضعٍ آخر :
عذارانا حزانى ذاهلاتٌ حولَ عشتارِ يغيضُ الماء شيئاً بعدَ شيءٍ من محيّاها وغصناً بعدَ غصنٍ تذبل الكرمة .
فعشتار كما هو معروف هي إلهة الأنوثة والحب والحياة ، وقد بدت الإناث في هذا النص " عذارى ذاهلاتٌ حول عشتار " ، كما أشرنا سابقاً لانعدام ماءِ الحياة .
الحواشي :
1- محمد خطابي ، لسانيات النص ، ط1 ، 1991 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت، ص: 15 2- نفسه ، ص : 13 3- سامح رواشدة قصيدة الوقت لأدونيس (ثنائية الاتساق والانسجام) ، مجلّة دراسات الجامعة الأردنية ، مج3 ، ع3 ، 2003 ، ص : 517 4- نفسه ، ص : 517 5- محمد خطابي ، ص : 17 6- نفسه ، ص : 17 7- نفسه ، ص : 18 8- نفسه ، ص : 18 9- نفسه ، ص : 18 10- سامح الرواشدة ، ص : 517 11- محمد خطابي ، ص : 19 12- نفسه ، ص : 19 13- سامح الرواشدة ، ص : 519 14- محمد خطابي ، ص : 19 15- نفسه ، ص : 19 16- سامح الرواشدة ، ص : 520 17- محمد خطابي ، ص : 21 18- سامح الرواشدة ، ص : 520 19- نفسه ، ص : 520 20- محمد خطابي ، ص : 24 21- نفسه ، ص : 24 22- محمد خطابي ، ص : 25 23- سامح الرواشدة ، ص : 522 24- سامح الرواشدة ، إشكالية التلقي والتأويل ، ط1 ، 2001 ، أمانة عمان ، عمان ، 96 . 25- نفسه ، ص : 97 26- براون ويول ، تحليل الخطاب ، ترجمة : محمد لطفي الزليطي ومنير التركي 1997 ، جامعة الملك سعود ، الرياض ، ص : 162 27- نفسه ، ص : 162 28- محمد خطابي ، ص : 60 29- سامح الرواشدة ، قصيدة الوقت ، ص : 523 30- محمد خطابي ، ص : 61 31- سامح الرواشدة ، قصيدة الوقت ، ص : 525 32- براون ويول ، ص : 279 33- سامح الرواشدة ، قصيدة الوقت ، ص : 525 34- براون ويول ، ص : 283 35- محمد خطابي ، ص : 62 36- www.alargam.com
المراجع
1- براون ، ج ، يول ، تحليل الخطاب ، ترجمة محمد مصطفى الزليطي ومنير التركي ، 1997 ، جامعة الملك سعود ، الرياض .
2- الرواشدة ، سامح ، إشكالية التلقّي والتأويل ، ط1 ، 2001 ، أمانة عمان ، عمان.
3- قصيدة الوقت لأدونيس (ثنائية الاتساق والانسجام) ، مجلة الدراسات ، الجامعة الأردنية ، مج3 ، ع3 ، 2003 .
** شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) | |
|
حمودة علاونة مشرف منتدى الرياضة
عدد الرسائل : 892 العمر : 31 تاريخ التسجيل : 28/01/2008
| موضوع: رد: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر السبت فبراير 23, 2008 1:57 pm | |
| | |
|
معتصم مؤسس المنتدى
عدد الرسائل : 477 العمر : 41 العمل : معلم المزاج : مشغول وحياتك مشغول تاريخ التسجيل : 10/08/2007
| موضوع: رد: ثنائية الاتساق والانسجام في قصيدة مدينة بلا مطر السبت مارس 01, 2008 1:48 am | |
| | |
|